
يحق للمغرب أن يفخر بما أحدثه من قطيعة مع ما كان يعرف بــ " سنوات الرصاص " . و يحق لنا أن نفخر جميعا بالمصالحة الوطنية التي أنهت سنوات من الاعتقالات و الإختفاءات القسرية ، و التي توجتها " هيئة الإنصاف و المصالحة " كحد فاصل ــ رغم كل الانتقادات التي طالت عمل الهيئة ــ بين عهد قديم قد ولى ، ومغرب جديد يحكمه الحق و القانون ، و تسوده العدالة و الحرية و اٌحترام حقوق الإنسان .
و بقدر ما استبشرنا خيراً و عمنا التفاؤل جميعا كمغاربة بمغربنا الجديد ، بقدر ما خابت آمالنا اليوم و نحن نشاهد تراجعا خطيراً فيما تحقق من مكتسبات حقوقية و قانونية و مؤسساتية .
فهل اٌستبدلنا سنوات الرصاص بسنوات "الزرواطة" ؟
و هل هذا هو المكسب الذي تحقق للمغاربة بعد كل هذه السنين ؟
و هل يحق لنا اليوم أن نفخر بــ "الزرواطة" كأداة قمع للسنوات القادمة ؟
إن ما يشاهده المواطن المغربي يوميا في شوارع العاصمة من تعاملات لا إنسانية و لا أخلاقية و لا قانونية من بعض المحسوبين على رجال الأمن في حق أطر البلاد و كوادر المستقبل القادم ، يؤكد بأن المكتسبات التي حققها المغرب في مجال حقوق الإنسان مهددة بتراجع خطير .
لقد كنا و مازلنا نفتخر برجال الأمن المغاربة الذين طهروا البلاد من الإرهابيين العابثين بأرواح المواطنين و سلامتهم ، ومن المهربين الذين ينفثون سمومهم بين أبناء هذا الوطن الغالي .
و لكن أن يتحول دورهم إلى تطهير البلاد من المثقفين و حاملي الشواهد العليا و إرسالهم إلى المصحات و المستشفيات بإصابات و عاهات مستديمة ، فهذا هو الانحراف الخطير الذي يجب أن يقف المغاربة ــ حكومة وشعبا ــ أمامه وقفة صارمة و حاسمة .
فلا يمكن للوطن أن يعامل أبناءه بهذا التنكر و الإجحاف كله .
و لا يحق لأي كان أن يقمع أطراً وكفاءات هدفها الوحيد هو رد الجميل لهذا الوطن ، و المساهمة في خدمته و الرقي به إلى تلك المكانة المرموقة التي يستحقها بين الأمم .
إن الضرب و الشتائم التي يتعرض لها المعطلين المرابطين بعاصمة المملكة لا وصمة عار في جبين كل المغاربة ، كل حسب موقعه من المسؤولية .
ففي الوقت الذي ينشط فيه أعداء المغرب و خصومه ، ويتربصون بكل كبيرة أو صغيرة لإضعاف موقف المغرب في المنتظمات الدولية ــ رغم أن هؤلاء الخصوم هم أخر من يحق له التكلم عن الحرية و حقوق الإنسان ــ و زحزحة مواقفه و قناعاته الثابتة في قضية وحدته الترابية .
ففي هذا الوقت بالذات نقدم لهم من قلب العاصمة المغربية صورة مخزية لقمع حرية التعبير و المس بكرامة المواطن المغربي ، وحقه في تقلد مناصب الوظيفة العمومية كحق شرعي و قانوني يكفله الدستور المغربي .
و بما أن التوظيف بأسلاك الوظيفة العمومية هو حق قانوني ودستوري، يتساوى فيه كل المغاربة الذين تتوفر فيهم شروط التوظيف ، فيحق لمن سلب منه هذا الحق أن يعبر عن اٌحتجاجه واٌستنكاره بكل الطرق القانونية و السلمية المتعارف عليها .
و هو ما سارت عليه كل مجموعات المعطلين المرابطة بعاصمة المملكة ، إيمانا منها بعدالة قضيتها و مشروعية مطالبها و سمو حقوقها .
لقد دأبت كل مجموعات المعطلين السابقة واللاحقة على تنظيم مسيرات منتظمة راقية و مسؤولة بين شوارع العاصمة ، مع وقفات و اٌعتصامات أمام مؤسسات الدولة ، قصد إيصال صوتها و التعبير عن صرخة الظلم التي طالتها من بعض المسؤولين عن هذه المؤسسات و الذين يتجاهلون آلامها و معاناتها ، أو يتماطلون في تحقيق مطالبها و حقوقها المشروعة ، رغم بعض الوعود المعسولة التي تتلقها هذه المجموعات من حين لآخر ، و التي وحتى إن صدقت تبقى غير كافية مادام مشكل العطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا مازال قائما. لقد أعطت هذه المجموعات مثالا ًحضاريا راقيا للنضال من أجل الحقوق المشروعة ، عملا بالمقولة المأثورة : " ما ضاع حق من ورائه طالب "، و رسخت بذلك في المجتمع المغربي مثالا محترما لكيفية اٌحترام حقوق الإنسان و الدفاع عن الحريات العامة . فلم تعرف مسيراتها المنتظمة أي تهديم للبناءات أو تكسير للمنقولات ، أو أي صنف من الاعتداءات على الملكيات الخاصة أو العامة . و ما فتئت تلقى تأييداُ شعبياٌ من كل فئات المجتمع المغربي ، من خلال إشارات التحية و النصر التي يرفعها المواطنين المغاربة وحتى الأجانب المارين من شوارع العاصمة، وكذا من خلال الدعوات بالنصر و التوفيق التي يسمعونها المغاربة أجمعين لهؤلاء المجموعات .
فهل بعد كل هذا تستحق هذه الأطر المعطلة تلك المعاملة القاسية و لا إنسانية ؟
إن المقاربة الأمنية التي تعتمدها الحكومة مع هؤلاء المجموعات لها من السلبيات ما يدفع المسؤولين إلى التخلي عنها فورا ، خصوصا وأنه لا تبرير لها على المستوى الميداني . حيث تبقى المقاربة الاجتماعية هي الحل الأمثل لمعضلة البطالة عموما وعند حاملي الشهادات العليا خصوصا .
لأن هاته الأطر المرابطة بالعاصمة لم تأتي إلى المدينة حبا في المظاهرات و الاحتجاجات ، أو رغبة منها في تحدي السلطات العمومية المحلية و المركزية .
إنها الظروف الاجتماعية المزرية ، و الإحساس بالظلم الفظيع نظرا لغياب العدالة القانونية في تقلد مناصب الوظيفة العمومية .
فهؤلاء الأطر ـــ أو أغلبهم على وجه التحديد ـــ قد مروا من تجارب أخرى متعددة قبل أن يستقر بهم الحال كمعتصمين أمام مؤسسات الدولة.
فلقد جربوا مثلا اٌجتياز مباريات الوظيفة العمومية التي تعلن عنها مختلف الإدارات العمومية المركزية واللامركزية ، و لم تزدهم هذه التجربة إلا مرارة وحرقة وهم يرون بأن المناصب التي تباروا من أجلها تذهب لمن هو أدنى منهم كفاءة و علما وتحصيلا .
لا نقول هنا بأن مباريات الوظيفة العمومية لا تفرز إلا الفاشلين عديمي الكفاءة ، بل نقول إن نسبة المتفوقين الناجحين في هذه المباريات تبقى ضعيفة إذا قورنت بنسبة الناجحين بالوساطات والمحسوبيات و العلاقات الشخصية و الحزبية .
لقد جرب هؤلاء أيضا طرقا أخرى كوضع ملفاتهم العلمية لدى وكالات التشغيل و مختلف وزارات الدولة ، لكن المناداة عليهم انطلاقا من ملفاتهم تبقى فرضية ضعيفة وتكاد تكون منعدمة ، لأن أغلب هذه الإدارات تفضل الدخول في مسرحيات المباريات الوظيفية وإيهام الرأي العام بأنها تختار موظفيها العموميين بمنطق العدالة و النزاهة و الشفافية،إنها إحدى أمراض الإدارة المغربية التي تستطيع تكييف القانون من أجل التستر على خرق القانون.
أمام هذا الوضع المتردي لا يملك حملة الشهادات العليا في المغرب إلا طريق الاحتجاج و التظاهر، و هي الطريقة التي رسخها أسلافهم المعطلين بتضحياتهم و دمائهم حتى وصلت اليوم إلى هذا الشكل الحضاري المنظم الذي يعبر عن ثقافة عالية لحقوق الإنسان و سيادة الحريات العامة و المناخ الديمقراطي .
لكن السلطات الأمنية في العاصمة تأبى أن تشارك بإيجابية في هذا المحفل الديمقراطي الحضاري ، و تحاول في المقابل أن تفرض منطق القوة ، مستخدمة في ذلك "الزرواطة" كأداة قمع للعهد الجديد .
ـــ فهل يعيش المغرب فعلا سنوات "الزرواطة" ؟
الجواب تقدمه اليوم سلطات القمع أمام البرلمان بحيث تقف بالمرصاد لكل المسيرات السلمية التي تقوم بها المجموعة الوطنية للأطر العليا المعطلة .
إنها فعلاً سنوات " الزرواطة " رغم أن الهيآت الحقوقية المغربية لم تنتهي بعد من تصفية كل الملفات والقضايا المرتبطة بسنوات الرصاص .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق